2013_1370982092_590.jpg


* حق الله على العبد *


إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لا من أجل أن يتقوى بهم، ولا لحاجته إليهم، وإنما خلق الخلق ليعبدوه؛ كما قال تعالى: &#00 }‬وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ &#00{‬ [الذاريات: 56] .

وهو سبحانه ليس بحاجة إلى عبادتهم؛ لأنه غني عنهم وعن عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إلى عبادة الله، فهم المحتاجون إلى العبادة من أجل أن تربطهم بالله عز وجل : &#00 }‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ &#00{‬ [ فاطر: 15 ]

فهم محـتاجون إلى الله في الدنيا والآخرة، محتاجون إلى رزقه، محتاجون إلى جنته، محتاجون إلى عفوه ومغفرته، محتاجون إليه في كشف ضرهم وجلب النفع إليهم، محتاجون إليه في كل حال، لا يستغنون عن الله طرفة عين، وما داموا محتاجين إليه، فما هي الرابطـة والصلة التي تصلهم بالله، من أجل أن يحقق لهم ما يحتاجونه في الدنيا والآخرة ؟ ما هي هذه الصلة ؟ ليس هناك صلة إلا عبادة الله سبحانه وتعالى ، ولهذا قال بعد هذه الآية : &#00 }‬مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ &#00 { ‬ [الذاريات: 57و58] ، وقال تعالى : &#00}‬ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ &#00{‬ [العنكبوت: 17] .


فلما كانت هذه العبـادة هي الصلة بينهم وبين الله؛ التي بواسطتها يرحمهم الله - عز وجل -، ويرزقهم الله، ويكرمهم الله في الدنيا والآخرة، كانت العبادة إذًا هي حق الله على العباد، وقد جاء بيان ذلك في الحديث العظيم الذي أخرجه الشيخان عن معاذ بـن جبل ؛ قال : قال : كنت رديف النبيعلى حمار، فقال لي : « يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: « حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا » ، قلت : يا رسول الله، أفلا أبشر الناس ؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا».


* قوله : كنت رديف النبي ؛ يعني : راكبًا معه.
* قـوله : « على حمار »: هذا فيــه : تواضع النبي ، وأنه يركب الحمار، مع أنه أشرف الخلق على الإطلاق، وتواضعه - أيضًا - في إرداف صاحبه معه .

وفيه : جواز الإرداف على الدّابّة إذا كانت تطيق ذلك، ولا يشق عليها .
* قوله : « فقال لي : يا معاذ » : أراد النبيأن يعلمه هذا الحكم العظيم، ولكنهأراد أن يُلْقِيَه إليه بطريقة السؤال والجواب؛ ليكون ذلك أَدعى إلى الانتباه والاهتمام؛ فإن التعليم عن طريق السؤال والجواب من أعظم الطرق الناجحة في تعليم العلم؛ لأنك لما تسأل الطالب عن شيء يجهله، ثم يتطلع إلى الجواب أحسن من أن تلقي إليه المسألة ابتداءً، وهو على غير انتباه واستعداد لاستقبالها، وهذه طريقة نبويّة استعملها النبيفي كثير من الأحوال.

* قال معاذ : قلت: « الله ورسوله أعلم » : هذا فيه : تأدب طالب العلم في أنه إذا سئل عن شيء وهو لا يعرفه : أن يقول : الله ورسوله أعلم، ولا يدخل ويَتَخَرَّص في شيء لا يعرفه، بل يَكِلُ العلم إلى عالِمه، ولا غَضَاضة عليه في ذلك، بل هذا يدل على فضله وورعه وأدبه مع الله سبحانه وتعالى، وأدبه مع المعلم.

وقد سئل الإمام مالك عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع مسائل منها، وقال عن البقيّة: لا أدري ، فقال السائل: جئتك من بلاد كذا وكذا أسألك عن مسائل ، وتقول لا أدري ؟ فقال له : اركب راحلتك ، واذهب إلى البلد الذي جئت منه ، وقل : سألت مالكًا و قال : لا أدري .

هكذا أدب العلماء ، والله - تعالى - يقول : &#00 }‬وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ &#00{‬ [الإسراء: 36] ، ويقول سبحانه وتعالى لما ذكر المحرّمات في قوله : &#00 }‬قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ &#00{‬ ، ختمها بقوله : &#00}‬ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاتَعْلَمُونَ &#00{‬ [الأعراف: 33] .




والآيات والأحاديث في هذا كثيرة ؛ فمن يريد النجاة والسلامة لنفسه وللناس؛ فإنه لا يتدخل في شيء لا يعرفه؛ لأنه يُوَرِّطُ نفسه، ويُوَرِّطُ الآخرين معه؛ لأنه إذا أجاب بخطأ؛ ضلّل الناس: &#00 }‬فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ&#00 { ‬ [الأنعام: 144]، فيجب على الإنسان أن لا يتسرّع في الإجابة عن شيء، إلا إذا كان يعلمه تمامًا، وإلا ؛ فليقف على شاطئ السلامة، ولا يدخل لُجَّة البحر وهو لا يحسن السباحة.

* وقوله: « الله ورسوله أعلم » : هذا يقال في حياة النبي: « الله ورسوله أعلم »، أما بعد وفاة النبي، فإنه يقال : الله أعلم؛ لأن النبيقد انتقل من هذه الدار إلى الرّفيق الأعلى إلى الدار الآخرة، فيوكل العلم إلى الله سبحانه وتعالى ، فالرسولعنده علم عظيم من الله، ويجيب في حياته، ولكن بعد وفاته، قد بلّغ البلاغ المبين، وأنهى مهمّته ورسالته، وانتقل إلى ربه عز وجل .



فلما تهيّأ معاذ للجواب وتنبّه وتطلع ؛ ألقى عليه النبيالجواب، فقال: « حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» ، هذا هو حق الله - سبحانه وتعالى - على عباده من أولهم إلى آخرهم؛ كما في قوله تعالى : &#00 }‬وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ &#00{‬ [الذاريات: 56] ،وهذا الحق هو أول الحقوق؛ وآكد الحقوق لأن الإنسان منّا عليه حقوق كثيرة، أعظمها : حق الله، ثم حق الوالدين، ثم حق الأقارب، ثم حق اليتامى، والمساكين، والجيران والمماليك؛ كما في قوله - تعالى - : &#00}‬وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ&#00{‬ [النساء: 36]

فهده عشرة حقوق ذكرها الله - سبحانه - في هذه الآية :
------------------------

أولها :

حق الله - سبحانه وتعالى - وكما في سورة الإسراء التي ذكر الله فيها خمسة عشر حقًّا، أولها : حق الله في قوله - تعالى - : &#00 }‬لا تَجعَلْ مَعَ اللهِ إلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا &#00 {‬، إلى قوله: &#00 }‬ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى في جَهَنَّمَ مَلُومًَا مَدْحُورًا &#00{‬ [الإسراء: 32]

فختم الآيات بما بدأها به، وهو حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يكفي هذا : أن يعبدوه، بل ولا يشركوا به شيئًا؛ لأن العبادة لا تكون عبادة إلا إذا خلصت من الشرك، أما إذا خالطها شرك؛ فإنها لا تكون عبادة لله؛ لأن الشرك يبطل العبادة، ويبطل سائر الأعمال، ولا يصحُّ معه عمل، مهما كلّف الإنسان نفسه بالعبادات، إذا كان عنده شيء من الشرك الأكبر ؛ فإن عبادته تكون هباءً منثورًا : &#00 }‬كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا &#00{‬ [النور:39]

قال - تعالى - : &#00 }‬وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِــنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَــنَّ عَمَلُـكَ وَلَتَكُـونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ &#00{‬ [الزمر:65] ،
وقال - تعالى - لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام : &#00}‬ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ &#00 {‬ [الأنعام : 184] إلى آخر الأنبياء الذين ذكرهم الله ، قال - جلَّ وعلا -: &#00 }‬وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ&#00 { ‬[الأنعام: 88] ، فالشرك يحبط الأعمال، ولهذا كثيرًا ما يأتي الأمر بالعبادة مقرونًا بالنهي عن الشرك : &#00}‬ وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا &#00 {‬[النساء:36] ، &#00 }‬أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا &#00 {‬[الأنعام: 151] .

وهذا هو معنى لا إله إلاَّ الله ؛ لأن لا إله إلاَّ الله تشتمل على النفي : (لا إله) ، وعلى الإثبات : (إلا الله) ، النفي : نفى الشرك ، والإثبات : إثبات التّوحيد .

قول: &#00}‬ أَنْ يَعْبُدُوهُ &#00{‬: العبادة - أيضًا - كما أنها لا تكون عبادة إلاَّ مع التّوحيد، كذلك لا تكون عبادة إلاَّ إذا كانت موافقة لما شرعه النبي ، فالعبادة وسائر الأعمال لا تصح إلاَّ بشرطين :-


الشرط الأول : الإخلاص لله عز وجل .

الشرط الثاني : المتابعة للنبي .



فلو أن الإنسان جاء بعبادات محدثة ليس فيها شرك أبدًا، كلها خالصـة لله، ولكنها ليست من شريعة النبي، فهي بدع مردودة لا تقبل، قال : « من عمل عملًا ليس عليه أمرنا ؛ فهو رَدْ » متفق عليه ، وفي رواية لمسلم : «من أحدث في أمرنا ما ليس منه ؛ فهو رَدْ » .

وهذا هو معنى الشهادتين:

شهادة أن لا إله إلاَّ الله، ومعناها : الإخلاص لله عز وجل.
وشهادة أن محمدًا رسول الله، ومعناها: المتابعة للرسول .


قوله: «وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا» : هذا الحق للعباد على الله ليس بحق واجب عليه سبحانه، وإنما هو تفضُّل منه عز وجل؛ لأن الله لا يجب عليه حق لأحد، ولا أحد يوجب على الله شيئًا، كما قال الشاعر:


ما للعباد عليه حق واجب ::: كلا ولا سعي لديه ضائــع

إن عذّبوا فبعدله أو نعّموا ::: فبفضله وهو الكريم الواسع




فمعنى « حق العباد على الله » :

يعني الحق الذي تفضل الله - تعالى - به من دون أن يوجبه عليه أحد من خلقه، بل هو الذي أوجبه على نفسه، تكرّمًــــا منه بموجب وعده الكريم الذي لا يُخلفه - سبحانــــه - :
&#00 }‬وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ &#00 {‬ [آل عمران:9].

« أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا » : فدلّ هذا على أن من سَلِم من الشرك الأكبر والأصغر، فإنه يسلم من العذاب، وهذا إذا جمعته مع النصوص الأخرى التي جاءت بالوعيد على العصاة والفسقة، فإنك تقول : العصاة من الموحّدين الذين لم يشركوا بالله شيئًا، ولكن عندهم ذنوب دون الشرك من سرقة، أو زنا، أو شرب خمر، أو غيبة، أو نميمة .. إلى آخره، فهذه ذنوب يستحق أصحابها العذاب، ولكن هي تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر لهم من دون عذاب وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم، ثم يخرجهم بتوحيدهم، ويدخلهم الجنة، فالموحّدون مآلهم إلى الجنة، إما ابتداءً وإما انتهاءً، وقد جاء في الأحاديث أنه يخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، فأهل التّوحيد مآلهم إلى الجنة، حتى ولو عذبوا في النار، فإنهم لا يخلدون فيها، وذلك بسبب التّوحيد .

أما الكفار، والمشركون، والمنافقون النفاق الأكبر، فهؤلاء مآلهم النار خالدين مخلَّدين فيها، لا يدخلون الجنة أبدًا: &#00 }‬لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ &#00{‬ [الأعراف:40]

فقوله: « أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا »: هذا وعد من الله سبحانه وتعالى؛ إن شاء غفر هذه الذنوب، وإن شاء عذب أصحابها، ثم يدخلهم الجنة بعد ذلك، وقد يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، وقد يخرجهم برحمته سبحانه وتعالى، فحتى لو عُذِّبوا، فإن مآلهم إلى الجنة : &#00}‬ إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ&#00{ ‬ [النساء‏:‏ 48‏]‏


فالتّوحيد إذا كان كاملًا، فإنه يعصم من دخول النار أصلًا، وإذا كان ناقصًا، فإنه يَعصم من الخلــود فيها، ولا يعصم من الدخول فيها، كما قال- تعالى - لما ذكر مناظرة إبراهيم الخليل عليه السلام مع عَبَدَة الأصنام قال : &#00 }‬فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ &#00 {‬[الأنعام:‏ 81] ، المؤمنون أو المشركون ، قال الله - تعالى - : &#00 }‬الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ &#00 {‬[الأنعام:‏ 82]، هؤلاء هم أهل التّوحيد، &#00}‬ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ &#00{‬ [الأنعام:‏ 82]

يعني : بشرك؛ ولهذا لما نزلت هذه الآية شقَّت على الصحابة وقالوا : أيُّنا لم يظلم نفسه ؟ ، فقال : « ليس الذي تَعْنُون، إنه الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح : &#00 }‬إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ &#00 {‬[لقمان:‏ 13]

فالمراد بالظلم هنا : الشرك ، فالذين سلموا من الشرك لهم الأمن، إما الأمن المطلق، وهو الذي ليس معه عذاب، وإما مطلق الأمن، وهو الذي قد يكون معه شيء من العذاب على حسب الذنوب؛ فالحاصل : أن أهل التّوحيد لهم الأمن بلا شك، ولكن قد يكون أمنًا مطلقًا، وقد يكون مطلق أمنٍ، بخلاف مذهب الخوارج والمعتزلة، فعندهم أن أصحاب الكبائر مخلّدون في النار، والعياذ بالله من هذا المذهب الباطل ، فعارضوا النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة التي تدل على أن أهل التّوحيد ولو كان عندهم ذنوب ومعاص؛ فإنهم لا يخلدون في النار، قال الله سبحانه وتعالى: &#00 }‬ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا &#00{‬ [فاطر:32]

يعني : هذه الأمة، والمراد بالكتاب : القرآن، &#00 }‬فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ &#00 {‬[فاطر:32] ، انظروا كيف ذكر الظالم لنفسه مع المقتصد ومع السابق بالخيرات ، ووعدهم جميعًا بالجنة : &#00 }‬جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ &#00{‬ [فاطر:33]، ذكر منهم الظالم لنفسه - بل بدأ به - مما يدل على أن أهل التّوحيد يرجى لهم الخير ، ويرجى لهم دخول الجنة ، ولو كان عندهم ذنوب كبائر دون الشرك .


ولما قال النبي : « حق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا » ، فمعاذ استبشر بهذا الحديث الشريف، وفرح به غاية الفرح، وقال: يا رسول الله ألا أبشر الناس؟ ، قال النبي : « لا تبشرهم فيتَّكلوا »؛ يعني : أن النبي خشي إذا سمعه الناس أن يتّكلوا على جانب الرجاء، ويتساهلوا في المعاصي، ويقولون: ما دمنا موحّدين فالمعاصي لا تضرنا؛ لأن الرسول يقول: « أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا »، ونحن والحمد لله لسنا مشركين، ونحن لا نعبد إلاَّ الله، فيتساهلون في المعاصي، فيغلِّبون جانب الرجاء على جانب الخوف، فهذا من الحكمة؛ أن العلم لا يوضع إلاَّ في مواضعه، فإذا خيف من إلقاء بعض المسائل على الناس محذور أكبر، بأن يفهموا خطأً مثلًا، أو يتَّكلوا على ما سمعوا، فإنها تكتم عنهم، من أجل الشفقة بهم، ورحمتهم من الوقوع في المحذور، فالنبي أمر بكتمان هذا النوع من العلم عن عامة الناس، وأخبر به معاذًا؛ لأن معاذًا من الجهابذة، ومن خواص العلماء، فدلَّ على أنه يجوز كتمان العلم للمصلحة، وأما خواص العلماء الذين لا يخشى منهم الوقوع في المحذور، فلا بأس بإلقاء مثل هذه المسائل عليهم، وإنما أخبر معاذ بهذا الحديث عند وفاته، خشية أن يموت وعنده شيء من الأحاديث لم يبلِّغه للناس ..

وهذا من الحكمة، فكل مقام له مقال، وتوضع الأمور في مواضعها، هذا هو الميزان الصحيح، والناس ليسوا على حد سواء، كل يخاطب بما يستفيد منه ولا يتضرر به، فلا تأت بآيات الوعد والرجاء عند المتساهلين، ولا تأت بآيات الوعيد عند المتشددّين، بل تكون كالطبيب تضع الدواء في موضعه المناسب، هكذا يكون طالب العلم ...
منقول من موقع الصحيفة الصادقة
 

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى