سوريا اليوم

مراسل صقور الأبداع من سوريا

فريق العمل:

باحث مشرف: د. سمير التقي

باحث مشرف: حسام ميرو

باحث مشارك: إبراهيم الأصيل

باحث مشارك: منير الريّس

&#00

&#00



من اليسار إلى اليمين: جلوسا: شكري القوتلي، سعد الله الجابري، رضا الشربجي، صالح العلي. وقوفا: أديب الخير، إبراهيم هنانو

&#00

&#00ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

&#00

أقسام الورقة:


  1. القسم الأول: العقد الاجتماعي السوري
  2. القسم الثاني: الملامح العامة للواقع السياسي السوري الراهن
  3. القسم الثالث: الأزمة الاقتصادية وتفكّك الدولة
  4. القسم الرابع: الوضع الإقليمي
  5. القسم الخامس: الوضع الدولي
  6. القسم السادس: وقائع التفكك الوشيك للدولة السورية
  7. القسم السابع: قراءة مقاربة للأحجية السورية
  8. القسم الثامن: السيناريوهات المحتملة
&#00

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

&#00

&#00

القسم الأول: العقد الاجتماعي السوري

وجدت سوريا الحديثة نفسها بعد الاستقلال مقطّعة الأوصال ومرّ فيها العقد السياسي الوطني والعقد الاجتماعي بمراحل عدة ويمكن أن نوزع هذه المراحل إلى ثلاث جمهوريات: فثمة جمهورية أولى نشأت بعد الاستقلال وصولاً إلى الوحدة، ثم جمهورية ثانية بدأت مع الوحدة وانقطعت لفترة بسيطة فيما بين 28 أيلول 1961 حتى الثامن من آذار 1963 لتعاود التأسيس لنمط الحكم الشمولي الشعبوي، ونرى أن الثورة الراهنة تأتي في محاولة لتأسيس للجمهورية السورية الثالثة. وسنركز في عرضنا المقتضب هذا على طبيعة العقد السياسي الوطني والعقد الاجتماعي بعد وصول حزب البعث إلى السلطة.

فلقد نشأ العقد الوطني السياسي السوري على ما يمكن تسميته بالشرعية الثورية فلقد حكم البعث هذه الفترة عبر التأسيس وفرض مجموعة من القيم قامت عليها سلطته ومن ثم سلطة عائلة الأسد. حاول البعث اشتقاق شرعيته من رؤية برنامجية لمهام وطنية: تحرير الأرض وتحقيق الوحدة القومية ومهام اجتماعية: في محاولة للجمع بين التنمية والعدالة الاجتماعية في إطار منظومة قيمية اشتراكية صاغت بنية الدولة بحيث تكون نسخة سورية للدولة الاشتراكية في ألمانيا الشرقية. وبذلك كان جوهر اشتقاق الشرعية الثورية في مرحلة ما بعد سقوط النظام الديمقراطي البرلماني في الخمسينات هو اشتقاقها من عوامل عقائدية ثورية قومية وطبقية.

بعد ذلك تعرض العقد الاجتماعي في عهد البعث جراء انتقال السلطة وتمركزها بيد عائلة الأسد لتحولات عميقة. فانتقل حكم البعث تدريجياً من تحالف بين قاعدته الشعبية المكونة من فقراء الريف في سورية وشرائح من الطبقة المتوسطة المدنية، ليغير جلده تدريجياً فيما بعد ويتحول العقد الاجتماعي إلى تحالف بين زمرة عسكرية نواتها عائلة الأسد ومجموعات من التجار الطفيليين، تمركزت خاصة في دمشق وحلب وبعض المناطق الأخرى.

ومع وصول بشار الأسد تسارع تعمق انقلاب العقد الاجتماعي والقاعدة الاقتصادية للنظام من مجرد تحالف بين نواة عسكرية مع رجال أعمال طفيليين في إطار رأسمالية احتكارية للدولة، إلى عقد اجتماعي يطلق العنان لنيو– ليبرالية فاسدة ناهبة، على شاكلة نموذج مصر-مبارك، وروسيا-بوتين.

وبالإضافة إلى العنف تمكن النظام من إعادة إنتاج وتوطيد سلطته من خلال تجديد عقده الاجتماعي ومن خلال استمرار قدرته في الحصول على ريع مادي كبير ثمناً لدوره الوظيفي كـ”بلطجي” في إقليم مأزوم تجري فيها تصفية عواقب مشاريع سايكس- بيكو ووعد بلفور وعواقب الحرب الباردة.

لقد أتاح له ذلك تأمين ريع كبير وفرته الريوع والمساعدات على مدى أربعين عاماً، وسمح له بتغطية نسبية لفشله التنموي المدقع وأتاح له موازنة التناقضات الاجتماعية وضبط الأمن الاجتماعي. لقد سمح هذا الوضع للنظام ببناء منظومة فساد عميقة الجذور في المجتمع وكانت لها وظيفة اجتماعية جوهرية سمحت بإعادة انتاج منظومة الولاء وتوسيع قاعدة الرشوة الاجتماعية بما يؤمن ضبط وقمع تناقضات الحقل الاجتماعي.

لكن، ومنذ وصول بشار الأسد ولأسباب مختلفة لن نخوض بها جرت جملة من الأمور التي بدلت مناخ الشرعية وقدرات النظام على إعادة إنتاجها، فتراجع الريع بشكل فادح، مما أفرغ القاعدة الاجتماعية للنظام وتخلى النظام عن بقايا الرشوة الاجتماعية في إطار جشع متزايد للاستيلاء على فائض الدخل القومي وفي إطار شعور كاسح بالغرور، وأفلتت منه القدرة على موازنة التناقضات الاجتماعية وانهارت بالمقابل دعاوى التحرير والوحدة كمبرر للفشل التنموي. ومضت الشرائح النيو – ليبرالية الفاسدة أبعد من ذلك عبر تصفية الأساس الفكري والسياسي لشرعية النظام حين أطلقت رصاصة الرحمة على ما تبقى من حزب البعث رغم كونه العمود المؤسس لشرعية النظام.

في حين استدرجت الغطرسة السياسية لقمة النظام الخيارات الاستراتيجية والسياسية للبلاد بعيداً عن إطاره العربي وغرق بغير رجعة في منظومة الأمن الإيرانية الإقليمية. وتآكلت على التوازي مقومات اشتقاق الشرعية من خلال القضية الفلسطينية والوحدة القومية العربية، بدءاً من الحرب على العراق إلى انفراط عقد التحالف السوري السعودي المصري في حين فشل النظام في التقدم خطوة جدية واحدة على طريق تحرير التراب الوطني المحتل في الجولان.

وعلى التوازي من ذلك بدأت تظهر في المجتمع السوري شروخ عميقة بين الأجيال والطبقات والمناطق وتوسعت المناطق المهمشة والمهملة وظهرت ملامح قوية لتفكك كامل منظومة التضامن الاجتماعي والولاء التقليدية في حين خنق القمع امكانية تبلور الأشكال المدنية لتضامن المواطنين والولاء والزعامة على صعيد المجتمع بأسره. وبالنتيجة مات القديم ولم يلد الجديد إلا بشكل جنيني ضعيف، فتذرى الانتماء وتبعثر المجتمع تحت ضغط الأزمة.

على هذه الأرضية، وفي غياب أية قيادة سياسية وثقافية قادرة انفجر المجتمع في ثورة من القعر نحو الأعلى فاجأت الجميع ببطولتها وعزمها بل وفاجأتهم بعفويتها وعاميتها. فاستكملت الثورة الإطاحة بالقديم لكن ولادة الجديد لا تزال متعثرة بشكل مقلق. وبذلك فنحن أمام عقد اجتماعي ينهار، مع انهيار التحالف بين رجال الأعمال في المدن مع السلطة وينهار معه ايضاً اساس شرعية هذا النمط.

يعبّر تطور الصدام الراهن عن رغبة أصيلة لدى اوسع قوى الشعب في إقامة جمهورية سورية ثالثة والانتقال بالبلاد من عهد الشرعية الثورية بمختلف أشكالها إلى الشرعية الدستورية القائمة على الحكم المدني الديمقراطي.

لكن الإشكال انه في غياب أي مستوى مقبول من القيادة السياسية واللوجستية بل وغياب الحد الأدنى المقبول للقيادة العسكرية يصبح السؤال الأساسي: كيف يمكن إعادة توليد عقد اجتماعي سياسي جديد يكفل تحويل حالة الفوضى الراهنة إلى عملية بناء لشرعية لا تقوم على تعسف منطق الصراع بل على توافقات منطق العقد الوطني. فالأحداث الراهنة توضح استمرار ثبات نسبي في عمل السلطة بحدها الأدنى وفي كفاءة الجيش النظامي. لكن انهيارهما وتحولهما إلى بنى مافيوية محلية خالصة، قد يسرع به تشرذم الجيش بعد دمج الشبيحة في بنيته وبالمقابل يمكننا أن نسجل فشل الثورة ونخبها وقياداتها العسكرية والمدنية في توليد منظومة ولاء جامعة وحالة من الانضباط الطوعي الجماعي، بما يحقق الحد الأدنى من التوافق والطاعة والانضباط، ويحقق حداً أدنى من حماية المدنيين وإدارة أوضاعهم كحلقة يمكن ان ينعقد عليها عقد الأمة السورية والدولة السورية الحديثة.

يثير ما نشهده بعد عقود طويلة من التشظي والتذري وتدمير منظومات الولاء والقيم القديمة وانسداد أفق ولادة القوى والقيم المدينة الحديثة، تساؤلات مقلقة حول مستقبل عملية بناء الدولة. فالفردية والعشوائية الطائفية والمحلية والعصبية والتطرف الديني، كل هذه المعاني السلبية جسدت عودة البلاد لحالة هوبزية من الفوضى المطلقة أشبه بما ساد في أوروبا ما بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر.

إن الاعتقاد بأنه يكفي الحصول على الاعتراف الدولي بهذه السلطة أو تلك بعد سقوط النظام حتى تنشأ اوتوماتيكياً منظومة الطاعة لدى المواطنين في الداخل لهو وهم ساذج عامي. فالشرعية والطاعة تنبعان اولاً واخيراً من نضج موضوعي أصيل لعوامل توافق وطني داخلي ولزعامات وطنية حقيقية. ولئن تمكن نظام البعث من تأسيس جزء من شرعيته على عوامل فوق وطنية فلقد تمكن من تفتيت آليات وبنى الولاء الوطني بشكل يولد حالياً حالة من الفراغ وافتقاد الزعامة بشكل خطير.

ومع دخول الصدام مرحلة الاستعصاء الراهنة ووصولنا الى مرحلة توزان الضعف في إطار صعود قوى الثورة وتآكل قوى النظام، يستمر المجتمع السوري في تقديم التضحيات الجسيمة، وليصبح التحدي الأكبر الذي سيواجه الجمهورية الثالثة الوليدة هو كيفية نقل السلطة ومفاتيحها من يد الشرعية الثورية الراهنة إلى شرعية دستورية ديمقراطية.

إن التمعن في البحث في دوافع القوى التي انتجت الثورة من جهة، وفي شعاراتها ومطامحها ومقوماتها المجتمعية والسياسية من جهة أخرى، يجعلنا نقول ان ما من سلطة ستكتسب شرعيتها إلا بقدر ما تحققه من توافق وطني لمكونات الوحدة والإجماع الوطني، ولما تحققه على المدى المنظور من استجابة لتطلعات المجتمع في التقدم والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




القسم الثاني: الملامح العامة للواقع السياسي السوري الراهن

يبدو واضحاً أن الكثير من العوامل التي تسم الواقع السوري الراهن قد اصبحت جزءاً لا يتجزأ من الصراع نفسه، وأسهمت تلك العوامل في تحويل الأزمة السورية إلى ساحة لتناقض وصراع المصالح الإقليمية والدولية.

بدايةً، لا بد من الاعتراف بأن طول أمد الصراع قد لعب دوراً مهماً على مستويات عدة، ومنها:


  1. على مستوى المعارضة:

  • انكشاف هشاشة المعارضة الديمقراطية المدنية أمام قوة وحشد القوى الإسلامية. إذ تتركز المعارضة المدنية اليوم في عدد من المناطق، وهناك العديد من المجموعات المدنية التي لا تنضوي تحت جناح لجان التنسيق المحلية، لكنها تعمل بآليات تواصلية جيدة، وتقدر تلك المجموعات بأكثر من 600 مجموعة في طول البلاد وعرضها، ويصل عدد أعضائها وسطياً إلى 100 شخص، ولكنها لا تخضع لإطار قيادي موحد، ولا برنامج سياسي محدد، لكنها تتبنى جميعها مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية، وتنشط بعض الأقليات في معظم هذه المجموعات، وبعضها يشكل القسم الأكبر منه مواطنون من الأقليات الدينية.
  • كشف طول المدة الزمنية عن تباينات في القوى الإسلامية نفسها، وأوجد أرضية لوجود قوى إسلامية جهادية.
  • فشلت المعارضة السورية في تشكيل بديل قائد للبلاد وللثورة. ولئن كان تشكيل الائتلاف الوطني مكسباً كبيراً على طريق وحدة المعارضة فإن الطريق نحو تمكنه من الحصول على إجماع سياسي ووطني وطاعة وقيادة وطنية جامعة ما زال أمراً يحتاج لجهود كبيرة وكثيرة .
  • كما أن بعض قوى المعارضة قد وقعت في مطب الاستخدام الإقليمي والدولي، وتحددت بالتالي قدرتها على أن تكون طرفاً جامعاً لقوى الثورة.

  • وترسخت في صفوف المعارضة المسلحة “الجيش الحر” حالة الانقسام، وتعدد الولاء، ولم يتمكن الجيش الحر بكل ما أنتجه تحت غطاء إقليمي أو دولي من تشكيل قيادة عسكرية موحدة على الأرض، يمكن أن تضبط عنصر السلاح، وتتحكم بطريقة استخدامه، وصولاً إلى بناء استراتيجية عسكرية، حتى أن الكثير من المناطق التي دخلها الجيش الحر لم يشكل دخولها إضافة نوعية له، بقدر ما شكل كارثة على سكان تلك المناطق، وغيّر من مزاج جماهير واسعة مؤيدة له.




  1. على مستوى النظام:

  • معظم الانشقاقات في النظام كانت من الطائفة السنية، وغابت أو ندرت الانشقاقات تقريباً بين المكونات الأخرى بشكل عام.
  • لم تحدث انشقاقات على مستوى القطع العسكرية الكبيرة، وظلت على مستوى الأفراد، أو المجموعات الصغيرة.
  • يعاني النظام من عدم قدرته على الحسم العسكري، وخروج مناطق كثيرة من البلاد من سيطرته العسكرية، وما يستتبع هذا الأمر من تجلي أشكال أخرى من سيطرة الدولة المركزية.
  • فقدان النظام للشرعية الدولية، مع الاحتفاظ بولاء روسيا وإيران بشكل رئيس.
  • يسعى النظام جاهداً إلى البقاء ممسكاً بزمام العاصمة دمشق، لما لها من رمزية سياسية، بالإضافة إلى إمساكه بالمنافذ الحدودية البرية مع لبنان والأردن، وتحكمه بمينائي طرطوس واللاذقية.
  • يركز النظام في حربه مع قوى المعارضة على استخدام سلاح الجو، ومدافع الهاون، ويتجنب المواجهة المباشرة مع عناصر الجيش الحر.




  1. على المستوى الإنساني:

  • ثمة معاناة واحدة يعيشها السوريون رغم اختلافها في الشدة بين المناطق الخاضعة لنفوذ الجيش الحر، أو لنفوذ النظام.
  • تضاءلت قدرة السوريين بشكل كبير وملحوظ على تأمين مستلزمات العيش الأساسية، وما يلفت الانتباه أن الأزمة تزداد في مناطق نفوذ الجيش الحر أكثر من مناطق نفوذ النظام، وتحديداً في حلب وإدلب، ويرجح أن القدرة الإدارية للدولة ما زالت تعمل في المناطق التي يسيطر عليها الجيش النظامي بشكل أكثر تنظيماً من المناطق الخاضعة لنفوذ الجيش الحر، رغم شح الموارد الواردة للخزينة، حيث باتت منظومات الولاء الجديدة تتحكم بطريقة توزيع الإعانات، هذا في حال وجودها، أو كفايتها لتلبية الاحتياجات، وعدم نشوء جهات إدارية قادرة على تنظيم وتأمين مستلزمات العيش الأساسية في بعض المناطق.
  • وصل عدد النازحين واللاجئين داخل سوريا وخارجها إلى حوالي أربعة ملايين لاجئ، وفي حين يبلغ عدد اللاجئين في دول الجوار وشمال أفريقيا حوالي نصف مليون لاجئ، فإن هناك اليوم 14 مخيماً في ثلاث بلدان، وهي تركيا والعراق والأردن. وبحسب المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة فإن 40% فقط من اللاجئين السوريين يعيشون في مخيمات. ففي مخيمات الأردن لا يتعدى عدد اللاجئين في المخيمات 24 % من مجموع عدد اللاجئين إلى الأردن، بينما يعيش ما نسبته 76% في بيوت مستأجرة، أو عند أقاربهم، وغالباً ما تتقاسم عائلات عدة السكن نفسه، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن رقم نصف مليون لاجئ يجب إخضاعه للتدقيق، حيث يعيش عدد كبير من اللاجئين السوريين في مصر، وهم غير مسجلين لدى المفوضية.
  • أوضاع اللاجئين في المخيمات تتباين، فهي في تركيا أفضل حالاً قياساً إلى مخيمات الأردن والعراق، أو الموجودين في لبنان.
  • بالإضافة إلى عدد القتلى الذي وصل إلى أكثر من 80 ألفاً، هناك عشرات الآلاف من المعتقلين، بالإضافة إلى أعداد غير محصية من الجرحى، أو ممن يحتاجون إلى علاج فوري، أو علاج مستمر.




  1. أوضاع شاذة:

  • دخلت مافيات كثيرة إلى سوريا، وهي تمارس عملها بالتنسيق مع عصابات نشأت خلال الأزمة، وهي مافيات سلاح، ومخدرات، وشراء آليات تابعة للدولة بأسعار زهيدة، أو القيام بأعمال خطف، وغيرها، مستغلة حالة الفوضى، أو وجود قوى نافذة جديدة يمكن التعامل معها.
  • لجوء بعض الكتائب التابعة للجيش الحر إلى تدمير ممتلكات تابعة للدولة، أي للشعب السوري، من دون أن يكون المقصود تحقيق أهداف استراتيجية، أي التدمير من أجل التدمير.
  • ازدياد حالة الرشوة في دوائر الدولة، وبلوغها أرقاماً قياسية.
  • ازدياد حالة العداء الطائفي، وتحديداً تجاه المكونات الأخرى، وانتشار حالات السرقة والخطف والقتل اعتماداً على الهوية.




  1. عناصر يمكن البناء عليها:

  • نشأت حالة من التكافل الاجتماعي بين السوريين في الكثير من المناطق، على الرغم مما يشوبها في بعض الأحيان من دوافع نفعية أو انتهازية.
  • دخول جيل الشباب على خط السياسة، والعمل المدني، وإن كانت الكثير من أفكار الشباب تنقصها الرؤية الواضحة، خاصة في المجموعات المدنية.
  • ازدياد الرغبة عند قطاعات واسعة من المؤيدين أو الموالين على حد سواء في إيجاد حل للأزمة، فثمة إحساس قوي بأن استمرار الصراع من دون حسم سيعني انهيار الدولة والمجتمع، والدخول في السيناريوهات الأسوأ.
  • توسع المساحة الرمادية الموجودة في المجتمع يمكن أن يشجع القوى المجتمعية على العمل معاً من أجل الحفاظ على النسيج الوطني وتبني حلول واقعية.
  • بات واضحاً للكثير من السوريين أن المجتمع الدولي سواءً المساند للنظام أو الداعم للمعارضة غير مهتم بمعاناتهم الإنسانية، وأن له أجندات لا تتقاطع بالضرورة مع مصالح السوريين.
وتقديرنا النهائي هو:


  • وجود حالة استعصاء في المجال العسكري بين قوى الجيش الحر وبين الجيش النظامي، قد ينكسر في أية لحظة تحت ضربات قوى الثورة، لكن أفق هذا الانتصار غير واضح، وتحديداً فيما يتعلق بمعركة دمشق، خاصة أن كل الوعود الدولية بتقديم دعم نوعي للجيش الحر لم تتحول إلى واقع فعلي.
  • زيادة الطلب لدى الجمهور الواسع الحاضن للثورة من أجل جعل قضية حماية المدنيين أولوية في كل العمليات العسكرية للجيش الحر، والاقتصاد في توريط المدنيين فيها، فذلك يشكل الضمانة الرئيسية لحماية لحمة الثورة وقواها، كما أنه الضمانة من احتمالات السيناريوهات الأسوأ.
  • ستسمر معاناة السوريين في الداخل بشكل رئيس على المستوى المعيشي اليومي، وستزداد حدة الأوضاع الإنسانية سوءاً، وهو ما سيفتح الباب أمام عصابات الجريمة سواءً المنظمة منها، أو الفردية.
  • أصبح مؤكداً أن مجموعة العلاقات والارتباطات التي نشأت خلال ما يقارب العامين الماضيين بين أطراف سورية في الداخل وأخرى في الخارج ستبقى تلعب دورها في شكل الحلول والتحولات.
  • يلاحظ أن النظام ما زال يحاول أن يقوم بدوره كدولة وليس كنخبة عسكرية وأمنية، وبالرغم من أنه يستمر في دفع الصراع إلى هاوية المجابهة الطائفية، إلا أنه يحاول ألا يعطي انطباعاً بعد بأنه ينوي التحول إلى مجرد كانتون طائفي.
&#00

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القسم الثالث: الأزمة الاقتصادية وتفكّك الدولة

لم تستطع الحكومات السورية المتلاحقة منذ استلام حزب البعث من السير ببرنامج تنموي شامل قادر على تلبية المتطلبات الأساسية للتنمية المستدامة. وقد عانت القطاعات الاقتصادية كافة من الأمراض الإدارية المزمنة، مثل انتشار الفساد، البطالة المقنعة، ضعف الإنتاجية. إضافةً إلى زيادة في نسب البطالة والفقر وارتفاع معدلات التضخم، وعدم وجود عدالة في توزيع الثروة.

وقد أدى تبني حزب البعث لاقتصاد السوق الاجتماعي إلى تحول الاقتصاد السوري للعمل بآليات السوق (العرض والطلب) من دون الاهتمام بتوفير شبكات الضمان الاجتماعي المرافقة لهذا التحول، الأمر الذي أفضى إلى تراجع في دور الدولة في الحياة الاقتصادية اليومية، مقابل زيادة في دور القطاع الخاص. كما أدى دخول الدولة في اتفاقيات التجارة الحرة مع الدول العربية وتركيا إلى تراجع دور القطاع الصناعي المحلي غير المؤهل للمنافسة، وتكبده خسائر كبيرة مقابل دخول السلع العربية والتركية.

وفي هذه المرحلة لم يعد بإمكان بنية الدولة أن تتناسب مع أدوات الإنتاج في العالم بشكل عام، وفي سورية بشكل خاص. الأمر الذي أدى إلى عجز الحكومة في الاستمرار في سياسات دعم احتياجات المواطن الرئيسية. وبدأت بالانسحاب التدريجي من قطاعات مثل الصناعة والتجارة والبنوك والتعليم والصحة، ورفع الدعم المقدم للمحروقات، سعياً منها للتخفيف من الاستنزاف الدائم لموارد الدولة.

أظهرت الثورة السورية بشكل جلي فشل الدولة في القيام بعمليات التنمية الاقتصادية والتنموية من خلال التطابق بين المناطق المهمشة المشاركة في الثورة ودرجة نموها الاقتصادي والاجتماعي. وأدت الأحداث الجارية في سورية إلى تراجع مستمر في المؤشرات الاقتصادية العامة، بسبب تعطل الدورة الاقتصادية من جهة، وبسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة من جهة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، أدى استخدام السلطة للخيار العسكري إلى تكبيد الدولة مصاريف إضافية لتأمين عدد من الأدوات اللازمة لقمع الثورة مثل (صيانة طائرات، وقود، ذخيرة، رواتب ومكافآت للعناصر والمجموعات المسلحة).

ومن الناحية النظرية، يمكن أن نعزي تبني السلطة للحل العسكري في جوهره إلى رفض النخب لتغيير طبيعة العقد الاجتماعي بناءً على متطلبات تطور المجتمع. وتعطيل عملية تطور النظام الاقتصادي السوري من اقتصاد اشتراكي إلى اقتصاد ليبرالي اجتماعي (اقتصاد السوق الاجتماعي).

تسبب تبني السلطة للخيار العسكري إلى نشر الدمار الواسع في البنى التحتية في المدن والقرى السورية (طرق، شبكات الكهرباء والهاتف والماء) وإلحاق أضرار جسيمة بالمباني السكنية والتجارية والصناعية. وفي السياق ذاته، أسفر تعطل الدورة الاقتصادية في سورية وعمليات التهجير إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل في جميع المحافظات السورية، وقد ترافق ذلك مع انقطاع عدد من السلع، وزيادة معدلات التضخم، بسبب ارتفاع أسعار الدولار، والأوضاع الأمنية في المدن.




ويمكن تلخيص الأزمة الاقتصادية الراهنة بالنقاط التالية:


  • بروز أزمة غير مسبوقة في توفير الخبز والمحروقات في كافة المحافظات السورية، وبشكل متباين الشدة بين محافظة وأخرى، بسبب نقص الطحين والمازوت والغاز، وصعوبات النقل والتنقل، وازدياد الطلب على هذه المواد في بعض المناطق، بسبب حالة النزوح الداخلي نتيجة الوضع الأمني والعسكري في العديد من المدن والمناطق الأخرى، ما أدى إلى صعوبة الحصول على هذه المواد، وارتفاع أسعارها بشكل جنوني.
  • انخفاض واضح في قيمة الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية الذي وصل إلى حوالي 100% مع ارتفاع نسبة التضخم منذ بداية الأحداث في آذار 2011 حتى الآن إلى حوالي 40%، ما انعكس على أسعار المواد الاستهلاكية الضرورية، نتيجة الأسباب التي سبقت الإشارة إليها، إضافة إلى انتشار ظاهرة الجشع والاحتكار وضعف الرقابة والمحاسبة للمخالفين وضعاف النفوس والفاسدين.
  • تردي أوضاع المهجرين الذي بلغ عددهم حوالي ثلاثة ملايين نسمة، ومعاناتهم الكبيرة في الحصول على ما يكفيهم من مستلزمات المعيشة، وخاصة في فصل الشتاء، وعدم قدرة جهود الإغاثة الحكومية والأهلية على تقديم ما يلزم بالشكل والوقت المناسبين.
  • تفاقم مشكلة البطالة بسبب توقف العديد من المنشآت الإنتاجية والخدمية كلياً أو جزئياً أو تراجع إنتاجها والطلب على خدماتها، وصعوبة الوصول إلى أماكن العمل، بما في ذلك الانتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، وكذلك الانتاج الصناعي.
  • التخريب والدمار الذي أصاب وما يزال يصيب المنشآت الصناعية والخدمية والبنى التحتية، وبشكل خاص السكك الحديدية، ومحطات توليد وتحويل الكهرباء، وآبار وخطوط نقل النفط والغاز.
  • توقف العديد من المنشآت الصناعية والخدمية، وانتقال عدد منها إلى البلدان المجاورة لأسباب مختلفة، يأتي في مقدمتها الوضع الأمني، ونقص الوقود والكهرباء، وضعف الطلب الداخلي والخارجي.
  • تراجع الإنتاج الزراعي، وخاصة المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، مثل القمح والقطن والشوندر السكري، حيث انخفض الناتج إلى النصف، وبلغ عجز القمح حوالي مليون طن، إضافة إلى تراجع الإنتاج من الخضار والفواكه ونسبة المسوق منها بسبب صعوبة الوصول إلى المزارع والمعامل ومحطات تربية المواشي والدواجن في المناطق المشتعلة، وعدم توفر مستلزمات الإنتاج لها، وصعوبة جني وتسويق منتجاتها وإيصالها لاحقاً إلى مناطق الاستهلاك. إضافة إلى ارتفاع أسعار الأعلاف، وتهديدها لإنتاج الدواجن والمواشي ومنتجات الألبان، وبالتالي ارتفاع أسعارها.
  • تناهي الحركة السياحية الخارجية والداخلية سواء داخل المدن السورية أو حتى فيما بينها إلى ما يقارب الصفر. إذ انخفضت عائدات السياحة في سورية بنسبة 75.4% مقارنة بين الربع الأول من عام 2012 ومثيله في عام 2011.
  • استنزاف الاحتياطي من النقد الأجنبي بعد توقف مصادره من خلال المقاطعة والمنع والتجميد وانخفاض تحويلات العاملين السوريين في الخارج من جهة، واستهلاكه من أجل مواجهة الاحتياجات الضرورية وكذلك تهريبه خارج البلاد من جهة أخرى، ما يهدد قيمة العملة الوطنية، وبالتالي الوضع الاقتصادي والاجتماعي خلال الفترة القادمة.
  • تراجع القدرة على التصدير، سواء بالنسبة للنفط، أو للمنتجات الصناعية والزراعية الأخرى.
  • ضعف السيولة النقدية لدى الحكومة حتى بالنسبة لتسديد الرواتب والأجور، نتيجة زيادة الإنفاق الأمني والعسكري بسبب الأزمة، وانخفاض الإيرادات الحكومية بسبب توقف تصدير النفط، وعدم تسديد الضرائب والرسوم والقروض ، إضافة إلى امتناع النمسا عن تسليم العملة السورية المطبوعة لديها، ما أدى إلى التحول لطباعتها في روسيا مؤخراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




القسم الرابع: الوضع الإقليمي

لا تكون الثغرات الجوهرية في استراتيجية أوباما تجاه الأزمة السورية في طابعها الحميد والمفرط في تفاؤله في حسن نوايا الأطراف اللاعبة الأساسية وانصياعها للإرادة الأمريكية، بل تكمن أيضاً في حقيقة أن العطالة الدولية قد تركت الأزمة السورية لتصبح مكسر عصا لكلّ التناقضات الإقليمية والصراعات التاريخية على النفوذ، هذه الحقيقة لا يولّدها إلّا غياب الفعل الدولي والأمريكي أساساً، اذ تُترك الساحة السورية لتصبح قُمعاً يرتبط مصيرها بحلّ كافّة القضايا المتشابكة في المنطقة والتي فشل حتّى الآن أوباما، كما أوضحت الجولة الأخيرة للسكرتير كيري، في بناء منظومة لها قدرٌ كافٍ من التوازن الداخلي بما يسمح بتطوير سياساتٍ مبنية على الثقة المتبادلة بين مختلف الأطراف.

واذ تبدي تركيا امتعاضها لتردّد الولايات المتحدة في دعم تصوّرها للحل في سوريا، وللأزمة المصرية والتونسية والموقف من أكراد كردستان العراق، تُدرك دول الخليج مخاطر المقاربة التبسيطية والمفرطة في تفاؤلها وطابعها النظري لشؤون المنطقة، الأمر الذي يضع منطقة الشرق الأوسط والخليج على كفّ عفريتٍ في منظورها بسبب المخاطر الكبيرة التي يتضمنها المسار الراهن للمفاوضات الروسية الأمريكية من جهة، والإيرانية الأمريكية من جهة أخرى، واستمرار التدخل الكثيف للولايات المتحدة لصالح رابح ينتقوه هم في مصر، في حين أنّهم يحجمون حتى عن أدنى مستويات التدخل في سوريا.

كما أنّ إيران وروسيا أصبحتا تنظران للساحة السورية كمختبر لنوايا الولايات المتحدة في الاعتراف بمصالحها في يالطا أوباما الجديدة، الأمر الذي يدفعها للتصعيد في سوريا عوضاً عن المساهمة في الحل. كلّ هذه المعطيات تشير إلى أنّ بقاء السياسة الأمريكية على خيار “ألّا نفعل شيئاً” هو ليس مجرّد خطر على بقاء “سوريا كما نعرفها” على حد قول الأخضر الإبراهيمي، بل على مجمل توازن الشرق الأوسط والأمن والسّلام الاقليمي والدولي بشكل مباشر.

إضافة إلى ذلك، لا يمكن أن نغفل ارتفاع مستوى الشعور بالخطر لدى الاستراتيجيين الاسرائيليين جرّاء شكوكهم في مآلات المفاوضات مع إيران بل ومخاطر سيناريو عدم التدخل، بما سيدفع بسوريا لتصبح ثقباً أسود يجذب إليه كلّ عناصر الفوضى (خطاب إيريز في البرلمان الأوربي حول ضرورة تدخل الدول العربية في سوريا).

&#00

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




القسم الخامس: الوضع الدولي

اندلعت الانتفاضة السورية رافعة مطالبها المشروعة بالتحرر من استبدادٍ ساد لخمس عقود، والتحول نحو الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، وبقيت الانتفاضة متمسكة بحراكها السلمي إلى أن استفحل قتل المدنيين من قبل النظام، وهو الأمر الذي دفع رويداً رويداً الكثير من أفراد الجيش وضباطه إلى الانشقاق، رافضين أن يكونوا أدوات قتلٍ لأبناء شعبهم، وبدأ الجيش الحر يعمل على حماية المتظاهرين، ثم ما لبث أن تبنى الجيش الحر شعار إسقاط شعار النظام كهدفٍ رئيس له، خاصة مع تحول القتل من قبل النظام إلى حالة ممنهجة.

وفي حينه، لم يدرك الكثير من السوريين أن سقف مطالبهم محدود بتلك الدول التي وضعوا ثمار ثورتهم في سلالها، بحيث تحاول هذه الدول السيطرة على التدريب والتجهيز في حدود كسر توازن القوى بين الثورة والنظام، من دون تحقيق الانتصار العسكري عليه، وهو ما نفهمه بوضوح من عبارة «معدات غير قاتلة» الهادفة إلى «تغيير حسابات الأسد» فقط وفق تعبير جون كيري!

قامت استراتيجية المعارضة الخارجية على إسقاط النظام السوري بأي ثمن، بعيداً عن أية خارطة طريق أو تصور أو استراتيجية عملية، وناهيك عن غياب تصورات عملية حول بناء الدولة الوطنية الديمقراطية ودرب الوصول إليها، وهو ما يعني التوقف حيث توقف الشريف حسين قبل قرن من الزمان، فنال إسقاط الإمبراطورية العثمانية، لكنه لم يظفر بالحرية. فالسير في طريق الحرية والديمقراطية يحتاج إلى مشروع يأخذ بالحسبان قدرات المجتمع وثقافاته وتراكيبه وتكوينه ومكوناته، ويمتحن تأهيله لإنجاز الاستحقاقات التاريخية للتطهر من همجية الاستبداد.

إن عدم قدرة قوى المعارضة الخارجية حتى اللحظة على فهم طبيعة الصراع الدولي وموقع الأزمة السورية فيه ، وعدم إدراك حقائق الوضع على الأرض، والتبدلات التي طرأت على المجتمع السوري بعد أن غادر معظم هذه المعارضة البلاد يوضّح سبب غياب السياسة والزعامة الحقيقية لدى العقل السياسي، وما إخفاق كل ما دعت إليه المعارضة الخارجية (من تدخل عسكري، وممرات آمنة، حماية دولية، ومناطق عازلة) إلا دليل على مدى العقم الذي دفع الداخل السوري ثمنه مضاعفاً، فالقضية العادلة وحدها لا تضمن انتصاراً، ولا تغيّر حسابات الدول التي لها مصالحه، كما أن البندقية بلا عقل لن تولد في نهاية المطاف سوى الظلام.

ولا يعني ما نقوله أبداً سحب الهدف المركزي لإسقاط الاستبداد، بل يعني البحث في آليات إسقاط الاستبداد، تلك الآليات التي تتيح وضع البلاد على مسار بناء الدولة السورية القوية التي يحلم بها السوريون. الأمران مترابطان لا انفكاك بينهما حتى تكتمل الثورة.

في خضم هذه المأساة الوطنية تحاول الدول الكبرى القيام بتجميد مفتعل لعلاقات وميزان القوة في سوريا، أو ترسيخ بنيته لتثبيت توازن قوى عدائي بين الجماعات السياسية والعسكرية الطائفية المختلفة، وفرض تقاسم جغرافي للسلطة والثروة، وتقسيم البلاد، الأمر الذي سيدفع البلاد في أتون صراع مديد مزمن، يحول سوريا إلى دولة فاشلة تماماً، تتنازعها صراعات الطوائف والإثنيات في مسعى لتحسين مواقعها على الصعيد الداخلي، وحيث تلقي القوى الإقليمية شباكها لفرض أجنداتها على فرقاء الصراع. إن حلاً كهذا لن يؤدي إلا إلى زرع بذور صراع مفتوح لا نهاية له، وقتل فرص التنمية السياسية والاجتماعية (لبنان والبوسنة).

وحتى في الظروف السلمية، فإن مثل هذا الاتفاق سيعمل على تشجيع القوى المحلية على الأرض وأمراء الحرب في كل الأطراف لاستغلال شكليات العملية الديمقراطية لتعظيم حصتهم من توازن القوى. ( كمبوديا والسودان / جنوب السودان وأنغولا ). حالة النزاع هذه تعكس ببساطة الطابع القسري لميزان القوى على أرض الواقع، في الوقت الذي يجري فيه تهميش كامل للقوى المدنية والديمقراطية. لذلك، فإن أي اتفاق يعتمد، ليس فقط على موازين القوى المحلية، ولكن أيضا على توقيت وأولويات الدور الذي تقوم به القوى الخارجية لحظة اتمام الصفقات.

فالسعي لسلام “بأي ثمن” تحت ذريعة الاستجابة للضرورات الإنسانية الفورية، يمكن أن يرسخ قوة الأطراف الأكثر تطرفاً لدى كل القوى المتنازعة، في حين تندحر القوى المدنية، وتفقد أية قدرة على التقدم. بل إن محاولة القوى الخارجية للتأثير في مسار الأحداث ينبغي أن ينصب على ترجيح كفة القوى المعتدلة، والتي تسعى إلى وحدة البلاد، وتعمل على تعزيزها،، وليس تلك التي تسعى وتؤسس لانفراط عقد الدولة والمجتمع.

يؤشر مسار الأحداث في سورية إلى الملاحظات التالية:


  • إن ما قام به النظام الطاغية لم يود به إلا إلى الفشل.

  • تتطور الأمور على الأرض نحو استتباب حالة من التقسيم الفعلي للبلاد، وتفاقم الاضطرابات وامتدادها إلى دول الجوار الاقليمي، مثل تركيا، وإيران، أو العراق رغم كل ما قد تجده هذه الدول من مصلحة لها في استمرار حالة الصراع.
  • يصعب جداً بالمقابل تحقق سيناريو الحل الصفري لصالح المعارضة، بمعنى أن تحقق المعارضة فوزاً تاماً ناجزاً مقابل خسارة كاسحة للنظام، واندحار القوى الاجتماعية السياسية التي تقف وراءه.
  • لا توجد فرصة تذكر لتدخل حاسم للقوى القتالية الخارجية نيابة عن المعارضة كما تدخل حلف شمال الأطلسي في البلقان، وبشار الأسد يعرف ذلك.
أحد الآثار المترتّبة على هذه الحزمة من الملاحظات هي أن أفضل فرصة يمكن أن توفرها الجهود الدولية لمستقبل سوريا تكمن في المساعدة على الانتقال للتفاوض، وإدراك أن التفاوض لم يعد منوطاً بسوريا وحدها، فسوريا أصبحت غير قادرة على مساعدة نفسها في الخروج من الثقب الأسود الذي دفعها إليه النظام.

المفتاح للوصول لهذه النتيجة يتوقف على ما يقوم به المجتمع الدولي، وبشكل خاص المفاوضون الأمريكيون والروس بمساعدة الأخضر الإبراهيمي.

من الوضح أنّ أيّاً من السيناريوهات المذكورة أعلاه ليس في “صالح” سوريا، لكن من الواضح أيضاً أن سوريا لو تُركت للعوامل العفوية وللقوى الظلامية فستقترب شيئاً فشيئاً نحو السيناريو السابع. وبذلك فإن اكتفاء المعارضة بتكرار ضرورة رحيل الأسد لا يمكن أن يكون استراتيجية بأي شكل من الأشكال، في حين يعلن الأسد ببساطة أنه لن يذهب، بل ويستمر في هروبه إلى الأمام، وفي حشد كل الأدوات والموارد اللازمة لدفع البلاد نحو حالة تماثل السيناريو السابع.

تكمن بعض التحديات المركزية في:


  1. البت في كيفية تأمين أجهزة الدولة المركزية لتكون بمثابة قاعدة مؤسسية للانتقال والحكم في المستقبل.
  2. مصير الأشخاص المرتبطين مع الحكومة خلال عقود من حكم عائلة الأسد.
  3. توقيت انخراط القوى الدولية، والذين يصعب من دونهم تصور الانتقال إلى التفاوض حول سورية جديدة.
المهم هنا هو أن يتناغم سعي الولايات المتحدة للإطاحة بنظام الأسد مع سعي روسيا للحفاظ على استمرارية مصالحها. وفي حين تتصاعد الضغوط على روسيا من أجل إتاحة المجال للتقدم نحو ترتيب الأمور، يتصاعد عدد الضحايا، وتتصاعد تحذيرات الإبراهيمي من انهيار الدولة وانفراطها، وفي حين لا ترغب الولايات المتحدة في إفساد صفقاتها مع كلٍ من روسيا وإيران يبدو أن العديد من القوى الدولية أصبحت أقل صبراً، وتشغلها مخاوف الانهيار المتسلسل في الشرق الأوسط. وبما أنّ سوريا تبدو غير “ناضجة” للمفاوضات اليوم، فإن السيناريو التفاوضي لابد أن ينضج بجهود متضافرة، وإلا فإن سوريا لن تنضج على الإطلاق، بل ستصبح بؤرة من العفن المدقع.

إن الامتحان الذي يجسّده الوضع السوري أمام المجتمع الدولي والولايات المتحدة بالذات يكمن في اختبار زعامتها الدبلوماسية أمام الوضع الراهن، وقدرتها على تحديد النتائج الأقل سوءاً، وكلفة واختيار مزيج من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والقسرية المناسبة لترجيحها.

يتطلب هذا الوضع تقييماً دقيقاً جدّاً لدور اللاعبين المحليين والإقليميين، في حين أنه قد يكون واضحا من هم “الأشرار”، فسيكون ايجاد الصيغة الجديدة للدولة وشكل المولود الجديد هو التحدي الرئيسي الناشئ، فالمهم بالنسبة للمجتمع الدولي ليس انتقاء الفائزين، بل المساعدة في تعزيز عملية ذات مصداقية.

إن تطوّر عملية سياسية ناجحة في سوريا يتطلب نفوذاً قوياً وحقيقياً، فالنفوذ لا يتولّد من الولاء وثمّة ضياع كبير وتبعثر في اللحمة الاجتماعية.

حاولنا أعلاه أن نثبت أنّ انهياراً تامّاً لمنظومة الولاء والنسيج الاجتماعي والاقتصاد المحلي بات وشيكاً جداً، ليس فقط على المستوى الوطني ولا على مستوى الدولة أو المستوى العسكري، بل على المستوى المحلي، كما أن متابعتنا للوضع السوري تشير إلى انهيار حثيث ويومي للبني المجتمعية، وتوليدهً تبعثراً كارثياً، قد يودي ببنية العلاقات في المجتمع برمتها.





  • تدخّل أو لا تدخّل:
قد يكون التدخل العسكري المباشر هو الحل الأقل مرونة في مثل هذه الحالات لعدّة أسباب. ففي مواجهة خيار التدخل أو عدم التدخل على الإطلاق تترنح السياسة الأمريكية، إنها تترنح بين خيار التدخل الفظ الذي اختاره بوش في العراق وخيار أن تدير ظهرها لجرائم كبرى بشعة كما فعل كلينتون في البحيرات الكبرى بعد مذابح قتل فيها حوالي 800 ألف شخص، أغلبهم ذُبح بالسكين والساطور.

ويذكّرنا “فقدان الشهية للحرب” والبلادة الأخلاقية للمجتمع الدولي وللغرب خاصة تجاه الأزمة السورية بتلك البلادة التي أبدتها الدول الغربية ذاتها بعد الحرب العالمية الأولى تجاه جرائم هتلر، واحتلاله لنصف أوروبا، وارتكابه أبشع مجازر في الهولوكوست في أوروبا، قبل أن يستعيد المجتمع الدولي “شهيته”.

وتخفي ذريعة “التعب من الحرب” عملياً حقيقة أن صنّاع القرار الأمريكي لا يرغبون في إفساد ترتيبات يالطا الجديدة التي يسيرون فيها بتراخٍ كبير مع كل من روسيا وإيران، في حين يديرون ظهرهم لمسؤولياتهم الدولية بشكل خطر، قد يودي بكل أفق لنظام دولي جديد مستقر في الشرق الأوسط، ويؤسس مرة أخرى لـ” سلام ما بعده سلام”.

ومن الواضح بعد عامين من الثورة السورية أنّه من غير المرجّح لهذه الأدوات وحدها أن تُعطي أيّة نتائج حقّة. فالعمل الناقص لا يُعطي نتائج ناقصة فقط، بل يعطي في السياسة نتائج عكسية، كما حصل حين تُرك البت في مصير تركة الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى في اتفاقية فرساي، فبقيت المنطقة مشتعلة لمئة عام. إن السير العملي للأحداث يصبح أخطر، ونحن نلاحظ كيف تفشل الولايات المتحدة في استخدام نفوذها لدى حلفائها الرئيسيين من أجل ضبط سلوكهم تجاه الصراع و مآلاته.

وتدل التجربة في ليبيريا في عام 2003، على أن المخرج البنّاء الوحيد الممكن كان تحجيم التدخل العسكري إلى الحد الأدنى من جهة، وتحفيز الدعم العسكري والدبلوماسي من نيجيريا وغانا والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ثم أمانة الأمم المتحدة) من جهة أخرى، تمهيداً لتشكيل خطة انتقالية لمدة سنتين، مما أدّى لإزاحة تشارلز تايلور من منصبه، والتأسيس لمرحلة انتقالية مهّدت الطريق للانتخابات.

ركّزت الدبلوماسية الأمريكية في الأزمة السورية على حشد دائرة واسعة من ما يقرب مائة دولة في “أصدقاء سوريا” تجتمع دوريّاً خارج إطار الأمم المتحدة، لتجنّب حق النقض الروسي والصيني. وفي موازاة ذلك، حاولت الولايات المتحدة المساعدة في تشكيل تحالف للسوريين أغلبهم يمثلون قوى في المهجر على أمل توحيد قوى المعارضة المختلفة، والحصول على الاعتراف الدولي به على نطاق واسع، لكن ما تقوم به أمريكا يبدو متناقضاً، ففي الوقت الذي تترك فيه واشنطن حليف موسكو ينزف حتى الموت، فإنها تترك لموسكو نفسها تحديد لحظة قطع شريان الحياة عنه.

لكنّ موسكو من جهتها لن تقوم بالاستجابة وقطع شريان الحياة ما لم تعرف أي نوع من الكائنات السياسية ستكونه سوريا الجديدة بالنسبة لها. وعلى مدى العامين الماضيين حاول النظام تأكيد أنه لا يوجد من دونه أية إمكانية لبناء وحدة وطنية سورية، في حين أثبتت اللعبة الأمريكية الناقصة أنها لا تخدم إلا موسكو. أمّا الروس فقد أثبتوا محدودية نفوذهم في اجتراح الحل الروسي في سورية، وأنهم غير قادرين على تقديم مخرج للأزمة. ولئن كانت الولايات المتحدة قد تمكّنت من الاطاحة بمنغستو هيلا ميريام في اثيوبيا بفضل دبلوماسية الهاتف النقال فإنّها قد سلّمت هذا الهاتف اليوم لروسيا وإيران.

تمر ريادة الولايات المتحدة باختبار عسير في الشرق الأوسط، وهو اختبار لا يبدو النجاح فيه ظاهراً في الأزمة السورية، حيث تسير الأمور نحو مرحلة انتقالية مملوءة بالعنف، وتتطلب الحكمة والريادة، وتشجيع المآلات الأقل سوءاً، وذلك عبر اعتماد مزيج من الأساليب الدبلوماسية والاقتصادية والأدوات العنيفة. إن سياسة معقدة كهذه تتطلب تقييماً دقيقاً للوضع على الأرض، وإدخال عوامل معقدة ومركبة كعناصر في التقييم.

الطرف المجرم الذي يجب التخلص منه واضحً، لكنّ الطرف المنتصر من هذا الصراع وطبيعته لم يصبح خياراً فعلياً. وهذا يثبت أن سوريا لم تعد قادرة بذاتها على اجتراح الحل لأزمتها، ومن المعروف أن الدبلوماسية تتطلب توفّر روافع، والروافع تأتي من توفر مصادر القوة على طاولة التفاوض بشكل أو بآخر. في حين أن التدخل الأجنبي هو الخيار الأكثر فظاظة، والأقل حظاً في تحقيق الاستقرار في البلاد لأسباب مختلفة.

وإذ تسير الولايات المتحدة في دعم تجربة من اختارتهم ليكونوا منتصرين في الساحة المصرية، فإنها تتردد في الإفصاح عن أهدافها ودوافعها لحلفائها في سوريا، ويبقى التساؤل في هذا الإطار هو: اذا كانت الولايات المتحدة تريد انتصار حلفاءها فعلاً عن طريق تمكينهم من ذلك، فهل تريد انهيار النظام أم تريد حلاً عبر وساطة سياسية؟

إذا كانت واشنطن ترغب في المساهمة في تشكيل سوريا الجديدة فيجب عليها أن تساهم في تحديد أي نوع من الكائنات سيولد من هذا الصراع، وهنا لا بد من القول إن المصداقية العملية للولايات المتحدة على المحك، والمصداقية هي جوهر الدبلوماسية والسياسة الجيدة، وهي الأداة الوحيدة التي تبقى على الطاولة.

تشير العديد من السوابق إلى أنه في التجارب الماضية كان هناك عدم وضوح عميق في المفاهيم في مركز صنع القرار الأمريكي، سواءً في العلاقة مع كتل المعارضة المحلية بكل ما يكتنفها من مشاكل أو في كيفية التعامل مع العناصر المسلحة، بما في ذلك أولئك المتورطين في أعمال الإرهاب، وكيفية تحديد دورها في العملية السياسية في المستقبل.

من المهم لتقييم الإيجابيات والسلبيات في سعينا لتحقيق هبوط آمن لعملية كسح قوى النظام، الاعتراف بأن وحشية النظام ساهمت بشكل رئيسي في تحويل المحتجين إلى متمردين مسلّحين، ومن ثمّ إلى أمراء الحرب.

وبغض النظر عن حقائق ما يقال عن التطرف لدى بعض الجماعات المسلحة، سواءً فيما يتعلق بأجندتها أو سلوكها المحلي أو أذرع تمويلها، أو حقيقة أنها بالنتيجة تطمح ببساطة للوصول إلى السلطة، وسواءً كانت المعارضة المسلّحة متماسكة أو أن بعضها يرتكب انتهاكات لحقوق المدنيين الأبرياء، وبغض النظر عن كل تلك المعطيات التي تطرح الكثير من الأسئلة فإنه من الضروري معرفة مواقف مختلف الأطراف ومصالحها، خاصة أنه يصعب تصوّر إيجاد نيلسون مانديلا بعد كل العنف الذي مارسه النظام.

إنّنا ندرك التعقيدات القانونية المرافقة لإشكالية الاتصال مع الجماعات المسلحة، لكنّ التبادلات الرئيسية التي تمت على الساحة السورية تجعل من الضروري على صانعي السياسات والمواطنين استعادة المرونة للتعامل مع اللاعبين الحقيقيين على الأرض.

إذ أن من الصعب أن نتصور كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يكون له تأثير على التغيير البنّاء من دون إشراك المقاتلين. لذلك نرى أنّه من الحري بالقوى الدولية إشراك هذه القوى لتعزيز التيارات المعتدلة في صفوفها، وتوضيح حدود قدرة العنف والقوة على الوصول إلى الحل، والعودة بالتالي إلى السياسة. (التجربة الإيرلندية والباسك في إسبانيا).

إن تجنّب العلاقات مع الجماعات المسلحة يهّمش فعليا القوى المعتدلة بدلاً من أن يعزز قوتها، فاذا لم يتم تمكين القوى المدنية و لم تتمكن هي من تجاوز تشتتها وغياب المنطق السياسي في صفوفها فإن الجماعات المسلّحة ستبقى تؤكد حقّها في أن تكون على طاولة الحل النهائي.

لذلك لابد من تصوّر مبادرة استراتيجية دولية توفّر الضمانات لأي اتفاق يسعى لإلزام كل الأطراف باحترام التزاماتها، والنقطة الأساسية هي أن التفاوض هو عملية في القضايا التي تحتاج إلى إطلاق تفاعل تسلسلي دولي مشترك محدد الأهداف والأولويات، ويخضع لمرحلة زمنية واضحة، ويحدد تفاصيل المفاوضات ومساراتها، وأهداف كل مرحلة فيها بشكل دقيق، وواضح بالطبع.

وتشير تجربة البوسنة بعد دايتون إلى المطبّات الكامنة في تقديم غطاء للمتشددين الطائفيين والقوميين. لابد من فصل ترتيبات المرحلة الانتقالية فوراً عن ترتيبات السلم الأهلي ونزع السلاح ووقف إطلاق النار، لذلك نرى ضرورة البدء من الآن في إطلاق عملية تفاوضية لوثيقة دستورية مبنية على توافقات وطنية جامعة لبناء دولة ديمقراطية تعددية لا مركزية، تسمح بإعادة ترميم العقد الاجتماعي الوطني، كأداة رئيسية لقطع الطريق على التطرف، وقطع الطريق على أمراء الحرب، وفتح الباب للقوى المدنية لاستعادة السيطرة على المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

تتوفر في سوريا مؤسسات مدنية هامة بما في ذلك جهازها الإداري المدني إلى جانب “الدولة الأمنية الخفية”. وعلى المجتمع الدولي والولايات المتحدة وروسيا أولاً أن يوضحوا تصورهم لمصير البلاد فيما لو تحقق النصر العسكري المباشر للقوى المسلحة وحصل انهيار كامل للنظام. فثمة فرق جوهري بين أن نحاول إسقاط النظام وبين أن نؤسس لمرحلة انتقالية إيجابية لمرحلة ما بعد الأسد.

بعض هذه التساؤلات تؤسس للكثير من مواقف الشريحة الرمادية للشعب السوري، وإذا كان ينبغي تجنب الفراغ أو الفوضى والانهيار التام للبلاد فإننا نحتاج للتفاوض مع رجال الدولة، ولابد من اغتنام الفرصة السانحة التي أسس لها التغير الراهن في موازين القوى، ودعم الانتقال عن طريق التفاوض.

سيُهزم الأسد وزمرته، ولاشك أن عليهم مغادرة الساحة السياسية، ورغم ذلك فنحن نؤكد أن المسار السياسي ليس بديلاً للفوز في ساحة المعركة، بل إن المسار السياسي هو السبيل لاستغلال ومتابعة النجاح العسكري، وتعزيز نمو معارضة سياسية متماسكة، للتأكد من أن المفاوضات لا تنجح دائماً، وغالباً ما لا تدوم نجاحاتها.

وطالما أن قوى الثورة لا تمتلك فرصة اللكمة القاضية فإن المهمة الرئيسية سوف تكون هي إبقاء جذوة الحراك السياسي نشطاً، هذا إن كنّا لا نزال نطمح للخروج بخريطة نعرفها لسورية التاريخية.

&#00ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

&#00

القسم السادس: وقائع التفكك الوشيك للدولة السورية

تسير الأوضاع في سوريا، وبخطى متسارعة نحو تشظي الدولة، وانفراط الجغرافيا، وهو ما تمّ التأسيس له عبر أوضاع ميدانية تترسخ مع الوقت:


  • بحكم الأمر الواقع على الصعيد العسكري واستعصائه بحيث لا نتصور تبدلات حاسمة في خطوط المواجهة.
  • مصالح القوى الإقليمية
  • انكسار شبه كامل للوحدة الوطنية انفراط عقد المجتمع.
توصيف للواقع الراهن:

&#00

شمال سوريا:


  • تتم تصفية تدريجية لما تبقى من تواجد النظام كمؤسسات سلطة وجيش.
  • لعبت وتلعب تركيا بشكل واضح لمصلحة تشكيل كيانين:
    • أحدهما في الشمال (المنطقة ِA) يتسيد فيه الاخوان المسلمون عبر الكتائب الاسلامية والحكومة المؤقتة التي سرعت من عملية تداعي وحدة البلاد في الشمال تتصل مصالحه بتركيا
    • الثاني في الشمال الشرقي ( المنطقة B)، باتفاق تركي مع البرزاني والأكراد، ينشأ بفعل حقائق الأرض والتحالفات السياسية وتتصل مصالحه بكردستان العراق.
الجنوب الغربي: (المنطقة C):

تتمركز قوات بشار الأسد في دمشق القديمة والحديثة، ويبذل أقصى جهده لإبقاء ظهره محمياً من جهة الحدود السورية- اللبنانية بالتواصل عبرها مع حزب الله. حيث تمتد قوات الأسد عبر شريط “كوريدور” غرب طريق دمشق حمص على امتداد القلمون وتنتشر قوات كبيرة مشتركة للجيش وجيش الدفاع الوطني (قوات علوية تطوعية) وقوات حزب الله عبر الحدود امتداداً إلى بحيرة قطينة جنوب غرب حمص.

الجنوب:

تشير المعطيات إلى:


  1. تغلغل بعض المجموعات الإسرائيلية في محاولة لتعزيز تواجدها في المنطقة العازلة في الجولان( المنطقة D ).
  2. تسلح حوالي 6 آلاف من شباب السويداء، وتمترسهم في مناطقهم (المنطقة E ).
  3. سيطرة تدريجية لكتائب محلية سلفية واخوانية على مدينة درعا (المنطقة F).
وسط سوريا: ( المنطقةG )

تتميز هذه المناطق بطبيعتها الجغرافية والديموغرافية التي ترشحها لأن تكون مناطق نزاع مفتوح بين مكوناتها، وهذه المناطق هي: حمص ( منطقة الغاب، مثل قلعة الحصن، والعريضة، وتلكلخ، والناصرية) وحماة، ومن المنتظر أن تجري عمليات تطهير واسعة النطاق على أساس طائفي.

الوسط الشرقي: ( المنطقة H )

يمتد على طول الشريط النهري للفرات من الرقة شمالاً إلى البوكمال جنوباً ويقع تحت سيطرة تيارات اسلامية سلفية وعشائرية واخوانية ويتداخل مع منطقة الجزيرة السورية شمالاً ومع البادية السورية وصولاً لحواف حماة وحمص غرباً. في حين تحاول تركيا ان تخترق مكونات هذا الشريط بهدف الحاقه بالكيان السني في الشمال الغربي.

J-Tf-W_GXxx02g0VR4FHbj1uZTKU95OJ4tPanIX4MrvrxaFX8OSA-WZi8s1HCdCsO-1CNp53_dDVwudia440xj9wmNNJ2ncmwSzgDbANGzlQ78KT2qsOLSiiBpN_r3vZ5g


&#00

كيانات غير مستقرة وملحقة:

لا تمتلك أياً من تلك المناطق مقومات الاستقرار ككيانات جديدة إلا إذا تم إلحاقها بالدول المجاورة وبذلك فإن الكيان العلوي ترتسم حدوده بشكل أكثر دقة، ليضم الساحل، ودمشق، والذي يمتد عبوراً إلى لبنان عبر التماهي مع الهرمل والبقاع وصولاً إلى طريق حمص- لبنان، حيث تنتشر قوات حزب الله على طرفي الحدود، وتقوم بإدارة نقاط حدودية وتتماهى الحدود السورية اللبنانية وصولاً إلى بحيرة قطينة في جنوب غرب حمص. ويتطلب استقرار هذه المنطقة عمليات تطهير وتهجير للسنة على طول الشريط الساحلي والمناطق الحدودية.

&#00ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




القسم السابع: قراءة مقاربة للأحجية السورية

تشكلت الأحجية السورية الراهنة من عمق المواجهة ومستوياتها المختلفة بين النظام وقوى الثورة والمعارضة، وهي الحالة التي تنشأ عندما تواجه الأنظمة الأزمات السياسية والتحولات العنيفة تحت ضغوط المعارضة. وسوريا ليست أول حالة من نوعها في هذا السياق، ولن تكون الأخيرة. لذلك قد يكون من المفيد أن نذكر كيف تطوّرت سيناريوهات مماثلة في الماضي من أجل استخلاص الدروس التي يمكن أن تفيدنا في فهم مآلات الوضع السوري، ومستقبل البلاد.

يسمح لنا الوضع الراهن أن نتصور مجموعة من السيناريوهات والتداعيات التي تشكل في معظمها مخاطر كبيرة على الوضع الإقليمي والدولي، ولكن قبل كل شيء على مستقبل الوطن السوري الجامع كما عهدناه في أغلب القرن الماضي. حيث يدفع السوريين ثمن هذه الكارثة التي ستطبع بنتائجها مستقبلهم ومستقبل بلادهم لعقود طويلة مقبلة.

لكن القوى الدولية والإقليمية يمكن أن تفعل الكثير الآن لدرء الأسوأ، وقطع الطريق على احتمال تحول سوريا إلى ثقب اسود يجذب اليه بقوة المنطقة بأسرها، خاصة مع توافر الكثير من العوامل في المنطقة، والتي تسمح بالتحول نحو هذا المسار.

ثمة العديد من المآلات المحتملة لتطور هكذا نوع من الصراع ( دون أن يعني ذلك رسم ملامح نهائية لمآلات الصراع الذي قد يتخذ مسارات انتقالية غير مستقرة و”ربما” عنيفة في مراحل لاحقة)، ونذكر هنا بعض السيناريوهات التي مضت إليها بعض الثورات:


  1. بنية ثورية متماسكة تحل محل بنية قديمة بعد صراع عنيف (إثيوبيا، عام 1974؛ روسيا، 1917). واللتين تمتعتا بقيادة منظمة وبنية معارضة عسكرية سياسية واضحة.
  2. ثورة مخملية ينهار فيها النظام وسط مزيج من قوة الشارع، والضغوط الخارجية، وانشقاقات في القيادة، (مصر وتونس، 2011، والاتحاد السوفياتي، 1991). وفي المثال المصري نرى كيف تشكل الثورات المخملية بحد ذاتها مساراً غير قابل للحساب المسبق.
  3. تغيير رأس النظام ودخول البلاد في مسار انتقالي طويل، يستند إلى حد بعيد على البنية القديمة للدولة (اليمن، 2011).
  4. نجاح النظام في القضاء على الثورة عبر قمع دموي ساحق ( سري لانكا، 2009)
  5. طريق تفاوضي انتقالي طويل بعد الثورة (جنوب أفريقيا، 1992-1994؛ بورما، 2010 -)
  6. صراع دموي طويل يطالب بالتدخل الخارجي القسري وفرض السلام (البوسنة، 1995).
  7. حرب أهلية ممتدة لفترات طويلة تؤدي إلى تفتت الدولة، وتشكل الصومال 1991 مثالها النموذجي ولكن ثمة مسارات أخرى يمكن رصدها، حيث يمكن:
    • أن تتطور إلى حالة الجمود لفترة طويلة إلى تقطيع الدولة إلى جيوب إثنية وطائفية وعرقية أو أقاليم إلخ..،
    • أو أن تسير الأمور نحو إنتاج ترتيبات حكم ذاتي، ودولة لامركزية، أو تقاسم جزئي للسلطة، في حين تبقى الدولة المركزية سليمة (كما في اتشيه في اندونيسيا أو مينداناو في الفلبين).
    • أو أن تتكاتف الضغوط الداخلية والخارجية من أجل تجميد الصراع وكبته، وضبط ميزان القوى في إطار تقاسم مفتوح للسلطة على أساس طائفي أو اثني بعد بلورة الجماعات السياسية في هياكل السلطة وتقاسم للسلطة، وذلك بعد إدخال البلاد فما يمكن تسميته بسلام ما بعده سلام، وتشويه فرص التنمية السياسية (لبنان، البوسنة، السودان)، حيث تستمر القوى المحلية الفاعلة في محاولة إعادة تشكيل الصيغة السياسية “التوافقية”، الأمر الذي يعكس المحاولة القسرية لتجميد الصراع بناءً على متطلبات الأوضاع الدولية، والذي يؤدي عملياً إلى دولة فاشلة، ومجتمع مهمش، حيث تلعب الأجندات الخارجية دوراً رئيسياً في تشكيل الحلول بذريعة تحقيق “سلام بأي ثمن” وتحت ضغط الاستجابة لضرورات إنسانية فورية.
&#00

هناك تشابه بين الحالة السورية والحالات المشابهة للسيناريو السادس والسابع، منها:


  • قوبلت الأزمة في الصومال بلا مبالاة دولية وعدم إبداء المجتمع الدولي أي اهتمام حقيقي بإعادة بناء الدولة ممّا ساهم بجعلها دولة فاشلة.
  • إن ارتهان حل الأزمة وبناء الدولة الواحدة بعوامل وأجندات خارجية زاد في تعميق الأزمة ودفعها نحو الاستعصاء.
  • أصبح لأجزاء من الصومال علاقات تربطها مع دول الجوار بشكل أمتن من علاقاتها مع بقية الأقاليم الصومالية الأخرى.
  • تفكيك العلاقات العشائرية المتجذرة في المجتمع الصومالي مع الفشل في انتاج البديل المدني يشابه ما جرى في سوريا حيث فكك البعث البنى المجتمعية التقليدية ولكنّه منع تشكل بنى مجتمعية مدنية بديلة، نتج عن ذلك تذرٍ كامل في المجتمع وافتقاده الكثير من آليات الولاء والتضامن وأصبح المجتمع عبارة عن أفراد دون حد أدنى من منظومات الولاء البديلة.
  • في ظل الفشل التنموي والاقتصادي مع فشل الحكومة المركزية في الصومال، سعت بعض الأقاليم لتكريس الانفصال سواءً بنية انفصالية مسبقة أم لا، حيث كانت الحاجة للانفصال في بعض الأقاليم الهادئة نسبياً ضرورةً ملحّةً لتسيير شؤون الإقليم في ظل غياب الحكومة المركزية وأعلنت أنها ستنضم للحكومة المركزية فور تأسيسها، ليصبح التقسيم المؤقت هو القاعدة الثابتة.
  • وفي العراق، فإنّ تسريح مئات الآلاف من المسلّحين وابقائهم بلا عمل وبلا راتب دفع الكثيرين منهم إلى تشكيل مجموعات مسلّحة تقوّض جهود السلم الأهلي والمصالحة الوطنية.
  • يعتبر الجيش والجهاز البيروقراطي القديم العمود الفقري لإعادة بناء أي دولة، ودونهما لا يمكن ربط الدولة ببعضها وإعادة تدوير عجلة التنمية. أثبتت التجربة العراقية أن محاولة بناء دولة من الصفر هو أمر كارثي ولا يمكن الدخول في قطيعة كاملة مع الماضي، ففي روسيا والدول الشيوعية لم يتم حل الجيش رغم تغيير الأنظمة، فمضت عملية البناء رغم صعوباتها بشكل أسلس ممّا مضت عليه في العراق. ومما لا شك فيه أن الجيش السوري سيحتاج لإعادة تعريف وعصرنة، بحيث يصبح تعداده مناسباً وتخضع قياداته للمحاسبة، وتصب أهدافه في المصلحة الوطنية العليا.
  • ونلاحظ أن ثمة خلاف جذري بين الحالتين السورية واللبنانية، ففي لبنان وخلال الحرب الأهلية كانت هناك زعامات واضحة للطوائف تقودها وتتكلم باسمها. ارتباط هذه الزعامات بأطراف خارجية ساهم في طول فترة الحرب من جهة، ولكن من جهة أخرى ساعد على إمكانية وضع قواعد للحرب كتحديد مناطق الاشتباك. كما أنّ هذه الزعامات شكلت الأطراف الأساسية على طاولة التفاوض عندما سنحت الظروف بذلك. أما في الحالة السورية فلا يوجد أطراف واضحة تعبّر عن الطوائف، كما أنّه لا يمكن تحديد موقف واضح يجمع الطائفة الواحدة حول أهداف مشتركة تعبّر عن تطلّعاتها. قد تتشكل زعامات طائفية مع امتداد زمن الحرب، ولكن هذا يعتمد بشكل كبير على السيناريوهات التي ستمضي فيها الأزمة.
  • ونستنتج من المثال اليوغسلافي أن الفشل في تحقيق التنمية وتفاوت مستويات التطور والاستبداد والتفرقة تجاه قوميات معينة وتجاهل مطالب الإثنيات والمناطق المهمشة هو من أهم أسباب الفشل في توليد هوية وطنية جامعة.
  • الصلف والعنف المطلق الذي مارسته الطغم العسكرية في معالجة الاحتجاجات الأولى قد شجع عملية التفكك في ظل غياب الحد الأدنى من التنظيم والبنية السياسية الوطنية التوافقية.
  • كما أن التدخل الأجنبي لعب دوراً حاسماً في تأجيج المشاعر نحو الانهيار والقطيعة كلها عوامل تسرع عملية تفتت الدولة الوطنية.
&#00ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القسم الثامن: السيناريوهات المحتملة

يفترق طرفا الصراع في الأزمة السورية في خياراتهما تجاه دفع الصراع في أيٍّ من السيناريوهات المحتملة: ففي حين تسعى قوى الثورة وعلى رأسها “الائتلاف الوطني” وقوى الحراك السلمي والكتلة الرئيسية للقوى المقاتلة من أجل الحفاظ على العناصر الثلاثة السابقة (التوافق الوطني، حالة الإدارة والحكومة، بنية الجيش) فإنّ النظام من جهته يبذل كلّ ما يمكن من أجل:


  1. تعزيز العصبية الطائفية.
  2. الاحتفاظ بمفاتيح إدارة الدولة في يده بحيث تنهار في غيابه.
  3. أدى تقسيم الجيش إلى قيادات محلية ودمج الشبيحة فيه وإطلاق يده ضد المجتمع وتلويثه ببعض من أبشع الجرائم إلى تحوّل الجيش الوطني في جزء كبير من بنيته إلى جيش انكشاري أشبه بالميليشيات. لا شك أن هذه العملية لم تكتمل بعد، لكن النظام يدفع باتجاهها بشكل مطّرد.
وعلى هذا الأساس تمضي الأزمة السورية بحيث تتجاذبها ميول الفوضى والتفكك التي بشّر بها بشار الأسد من جهة، والمساعي الدفاعية لقوى الثورة والمجتمع من أجل درء الحرب الأهلية ودرء تفكك الدولة والمجتمع من جهة أخرى. ولا شك أن مهام قوى الثورة في هذا المجال كبيرة جداً، تتمثل في:


  1. تحريم الخطاب التحريضي والممارسات الطائفية والحفاظ على الوحدة الوطنية كبؤبؤ العين.
  2. الحفاظ على بنية الدولة ومؤسساتها سواءً في المناطق الموالية أو المعارضة.
  3. التخطيط لإعادة بناء الجيش الوطني منذ الآن، والسعي لتطوير آليات اتصال جدية مع العناصر والتكتلات الوطنية الشريفة داخل مؤسسات الجيش.
وإذا كان مصير النظام محتوماً غير أن مصائر الصراع ومصير البلاد ونجاح التجربة الانتقالية في الوصول إلى حالة من التوافق الوطني ضمن الشروط السابقة تبدو غير محسومة على الإطلاق، وهي تطرح أمام قوى الثورة مهام حاسمة وضرورية وصعبة.

وإذ تدخل سوريا في هذه المرحلة الجديدة كلياً، يبدو أن تطور الأمور يسير في اتجاهين متناقضين. ففي حين يتداعى وضع النظام في الشمال يحاول النظام أن يركز قواه في الجنوب والغرب، وفي طريقه إلى ذلك يعزز الطابع اللامركزي في بنية القرار، ليولد من جديد أمراء حرب محليين، ترتبط مصالحهم أكثر فاكثر باستمرار الصراع، وهو ما من شأنه أن يهدد مؤسسة الجيش بالتفتت، لتتحول إلى ميليشيات، تبقى موالية للنظام.

إن السمات العامة للصراع تتلخص بغياب الزعامة مع وجود أجندات مختلفة، وتعدد لمصادر التمويل، وهذا ينطبق على الطرف الموالي كما على المعارض. في الوقت الذي يسعى فيه الغرب وروسيا لإبقاء النزاع صراعاً منخفض الشدة حتى “ينضج”.

وبالرغم من أن تحوّل المعركة الراهنة لحرب طائفية استراتيجية ليس أمراً بديهياً، لكن درء هذه الحرب يتطلب نضالاً وقيادة حية ويقظة متقّدة من “الائتلاف الوطني”.

إن المسار العفوي للأحداث لا يخدم أهداف الثورة، خاصة مع دفع النظام الأمور في اتجاه الحرب الأهلية وتشرذم قوى المعارضة على الأرض، ولو تركت الأمور على عواهنها فإنّ مخاطر الحرب الأهلية ماثلة أمام العيان، ولولا وعي الشعب السوري وصلابة بنيته الوطنية لكان مسار الأحداث قد كرّس طائفية الثورة، لكن وعي المجتمع ورجحان رؤية التيار المدني السلمي والتوافقي هو الذي ثبّت البلاد حتى الآن.

إن ذلك يضع على قيادة “الائتلاف الوطني” مهام ملموسة، ينبغي دراستها وتحليلها، ووضعها موضع التنفيذ، من أجل مجابهة هذه المخاطر، ذلك لأن النظام وعفوية الحراك يعملان في الاتجاه المضاد. يجب أن ينكسر توازن الضعف لمصلحة الثورة خلال وقت ليس بالبعيد قبل أن تنكسر الدولة والجيش، حتى لو استمر الخنق الراهن للثورة من قبل بعض القوى الخارجية.

بمعنى أنه يجب أن ينكسر التوازن الراهن قبل أن تستكمل الدولة انهيارها، ويستكمل الجيش تفككه، وإذا حصل ذلك يمكن لهذا الانتصار أن يوفر أساساً جدياً يمكن البناء عليه في إعادة إنتاج توافق وطني جامع يشمل كل السوريين ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء، وممن يعملون في البنى الرئيسية للدولة والمجتمع من أجل إعادة التأسيس لشرعية توافقية انتقالية، تسمح بإدخال البلاد في مرحلة إعادة التأسيس للجمهورية الجديدة، ويسمح بالمحافظة على وحدة أراضي البلاد والعقد الوطني السوري الجامع.

:السيناريو الأول

ويقوم هذا السيناريو على فرضية أن النظام سيحافظ على قدرته على التصرف كدولة بغض النظر عن كون هذه المؤسسات تعاني من ضعف شديد وتراجع جوهري في وظيفتها، إضافة إلى دعم غير مباشر من قبل الكتلة الرمادية من المجتمع، والتي تقاوم الانجراف نحو الحرب الطائفية والعنف المطلق. كما لم يصل السوريون حتى اليوم بالرغم من كل التوتر الطائفي إلى حالة انقطاع كامل بين الطوائف والأديان، فلم تُقطع شعرة معاوية بَعد بينهم، ومن الممكن رأب الصدع الحاصل عند سقوط النظام، بفرض العدالة القضائية في مواجهة من ارتكب الجرائم، وتلطخت أيديه بدماء السوريين. يفترض هذا السيناريو سقوط النظام سواءً بعد تضافر العوامل العسكرية والسياسية مع بقاء هيكلية الدولة، وبقاء هيكلية العقد الوطني السياسي، والاستيلاء على دمشق من قبل الجيش الحر قبل انفراط عقد الجيش النظامي والدولة المركزية.

السيناريو الثاني:

إنّ ترك الأمور على عواهنها ووضع الأقدام في مياه باردة لا يتوافق مع دروس التاريخ التي أوردناها، ولا مع حقيقة مسار الأحداث. فلو تُركت الأمور لعفويتها ولم يجر تحصين الثورة والمجتمع ضد احتمالات الحرب الطائفية وتُرك الصراع ليحسم لصالح الثورة عبر سلسلة من المعارك الطويلة والمضنية وباهظة التكاليف فإنّ من المرجح أن تسير البلاد في سيناريو الفوضى التي تعني عملياً الاقتتال الطائفي المنفلت، هذا الاقتتال الذي يمكن أن يأخذ أبعاد حرب طائفية استراتيجية، نتيجة حالة التذري، وافتقاد الوحدة الراهنة والزعامة على كل الأصعدة، وتحول البلاد إلى حالة من الفوضى الكاملة، وانفلات عقد الدولة، وتعدد مصادر التمويل داخل كل طائفة أو فئة أو منطقة على حدة، وهكذا نصل إلى حالة “حرب الجميع على الجميع” تشمل كل الأطراف. وهناك احتمال بقاء القوى الطائفية متلاحمة على أساس خطوط طول التفرقة الطائفية والإثنية في إطار توافقات إقليمية ودولية، لنصل إلى حالة من المجابهة الاستراتيجية الطائفية في إطار ما يصفه الأخضر الإبراهيمي بالطائف السوري. ويفترض السيناريو الثاني سقوط دمشق بعد انفراط عقد الجيش، وتداعي الدولة، وسير الجيش النظامي نحو التفكك بفعل عدة عوامل:

أولاً: تقسيم الجيش إلى قيادات مناطق عسكرية تعمل باستقلال شبه تام عن المركز حتى من حيث التموين والقيادة التكتيكية والاستراتيجية.

ثانياً: نقص الموارد وغياب القانون وتسيد العلاقات المافيوية.

ثالثاً: الانشقاقات المتتالية والتكريس التدريجي للطابع الطائفي للجيش.

رابعاً: انهيار الطاعة وغياب مقومات الشرف العسكري فيما يقوم به الجيش النظامي.

خامساً: عدم الثقة شبه التام بالقيادة.

سادساً: مظاهر سلوك في الجيش تقوم على المكاسب الشخصية البحتة والسعي للبقاء، بغض النظر عن مصلحة النظام. أما على صعيد السلطة المدنية، فهناك عوامل تسرع في انهيارها منها: انهيار الولاء، والفساد، وتدهور الأوضاع المعيشية، وانهيار بيئة العمل، وصعود مشاعر الخوف والانتقام والحقد الطائفي والتمويل الانتقائي للجماعات المسلحة، بما يرجح موقع تلك القوى التي تشترط الأيديولوجية الطائفية والمتطرفة، وافتقاد القيادة السياسية الجامعة للثورة.

إننا نعتقد بأن حالة الفوضى في البلاد التي قد تنجم عن انهيار النظام بالتزامن مع انهيار الجيش ومؤسسة الدولة، وفي ظل غياب قيادة سياسية حقيقية للثورة، ستؤدي إلى تعثر كبير في عملية التأسيس للشرعية الجديدة القائمة على الإجماع الوطني، ما يبشّر بمستقبل سيء للبلاد، حيث يتحوّل الجيش من جيش وطني له اعتباراته إلى حرس شخصي يدافع عن بقاء النظام، وهو ما سيسهم في زيادة انهيار القيم الاجتماعية السورية القائمة على الاعتدال، الأمر الذي سيهدد المجتمع بانقسام حقيقي على أساس طائفي.

كما أن استمرار حالة النزوح من مناطق الاحتكاك الطائفي بين السنّة والعلوية، يمهد لسيناريو التطهير الطائفي والإثني.

كل العوامل المذكورة سابقاً ستؤدي إلى انخراط البلاد في حرب أهلية إثنية طائفية يتلاعب فيها أمراء الحرب، والقوى الإقليمية المتصارعة، ذلك أن تداعي منظومات الولاء المحلية وتذريها وتبعثرها وانهيار الاقتصاد المحلي سيقودنا إلى خطر صوملة سوريا، وتفتت المجتمع إلى أصغر وحداته، وسيؤدي ذلك لحالة من الاقتتال، ليس فقط على السلطة والنفوذ، بل على وسائل العيش، وهي الحالة الأسوأ من بين كل السيناريوهات.
 

التعديل الأخير بواسطة المشرف:

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى